أكاد أجزم أن الليبرالية تتربع على عرش الكلمات سيئة السمعة في الوطن العربي؛ حيث ترتبط عادة بالانحلال، الإلحاد، الحرية المطلقة… إلى آخر التهم المألوفة. مثلا، قال رئيس الوزراء الأردني الدكتور بشر الخصاونة في وقت سابق:” نحن حكومة وطنيون: لسنا ليبراليون، ولا ليبراليون جدد، بل حكومة وشعب نعتز بأننا بإذن الله لسنا من تلك الطينة ولا من تلك القماشة” (الخصاونة: لسنا من قماشة الليبرالية .. والعجارمة: لم ألق العباءة، 2021).
بصرف النظر عن الليبراليين الأردنيين الذين يتحدث عنهم الرئيس فأنا لا أعلم من هم لقلتهم أولا ولحصر تطبيق الليبرالية بالوطن العربي بالحرية الاقتصادية بمعناها الضيق (Meinardus, 2014). لكن من الواضح أن الليبرالية سبة نحاول بكافة الوسائل تجنبها، وأنا هنا مهتمة بتفكيك هذه الوصمة وفهم أسبابها عن طريق طرح بعض الأسئلة؛ أؤكد هنا أنني لا أريد شرح معنى الكلمة وجذورها التاريخية، أو حتى الإجابة عن السؤال: هل الليبرالية مستوردة بالكامل أو لها أصل عربي؛ فأنا أرى أن هذا الجدل قد عفا عليه الزمان وهناك العديد من المراجع المتوفرة على الشبكة العنكبوتية.
بداية هل تخيفنا كلمة الحرية (التي هي إحدى أهم ركائز الليبرالية) لهذه الدرجة؟! هل لأن ثقافتنا العربية تحتفي بالطاعة العمياء كما يقول الدكتور الشرابي “يولِّد الاحترام الأحادي في الطفل أخلاقية طاعة تتميز بالخضوع لإرادة غيره. أما الاحترام المتبادل فيولد في الطفل أخلاقية حرية ومساواة وعدالة.” (شرابي، 2017) أليست الحرية والمساواة والعدالة ما نريد في هذه المنطقة الملتهبة منذ عقود؟؟ ولا عجب أن نقص الحريات مقترن مباشرة بالفقر الاقتصادي الذي يسلب الناس حقهم في الحرية والحصول على حاجاتهم الأساسية، وفي أحيان أخرى يكون افتقاد الحريات مقترنا بضعف المرافق العامة والرعاية الصحية (غرايبة، 2020)
أو يكون السبب تدني المستوى الثقافي وضعف المنظومة التعليمية وغياب التفكير النقدي والفلسفة من المناهج المدرسية، فاعتدنا أسلوب الحفظ والتلقين، واعتبرنا العديد من الأمور مسلمات لا يجوز التشكيك بها أو حتى طرح الأسئلة الجديدة لنفهمها؛ فقتلنا الابداع والطفل الفضولي الذي يسكن فينا؟
أم هو السبب غياب وسائل الاعلام الحرة التي تقدم بديلا حقيقا واحترافيا للخطاب الشعبوي السائد، بالإضافة لعدم قدرتها على مراقبة أو نقد السلطات المختلفة ومحاسبتها؟
أو يمكن أن يكون السبب عدم اتفاقنا على ماهية وظيفة الدولة وما المطلوب منها وعلاقتها الشائكة بالقطاع الخاص والمجتمع المدني؛ فتعلقنا تارة بنموذج الدولة الريعية وتوزيع المكتسبات على بعض الفئات المحدودة في المجتمع مما عمق الشعور بالمظلومية والتهميش، أو هو الحنين لبعض الأيدولوجيات البائدة وأبطالها من ورق التي نادت شكليا بالعدالة والمساواة لكنها رسخت على أرض الواقع مركزية السلطة والديكتاتورية وارتكبت أخطاء ما زلنا ندفع ثمنها للآن؟
أم كانت المشكلة الأكبر في الخطاب الليبرالي الذي يتبناه بعض السياسيين/ات والاقتصاديين/ات العرب ممن يرتدون ملابس عصرية ويحملون شهادات من أفخم جامعات العالم؟ فكان الخطاب في أحسن حالاته متعالِ محشوِ بكلمات تقنية صعبة وغير مفهومة للعوام، بالإضافة لحلول غربية صرفه لا تناسب السياق المحلي وتحدياته. أو كان الخطاب ضعيفا لا لون له ولا رائحة لمحاولة كسب التعاطف الشعبي وتهربا من النقاش حول الأمور المهمة منها علاقة الدين والدولة، وحقوق الأقليات، والمرأة، وسيادة القانون؟
أتوقع أن الإجابة هي جميع ما ذكر، فبالرغم من أن التيارات الأصولية والمحافظة لم تقدم برنامجا متكاملا أو حتى حلولا جديدة، إلا أن صوتها كان الأعلى وخطابها كان الأقرب للشارع العربي فقد لامس احتياجاته واحتوى مشاعر الغضب لديه… لقد كان الفراغ السياسي الذي أعقب الربيع العربي فرصة ذهبية لليبراليين/ات لكنهم/ن فشلوا/ن في الوصول للحكم متذرعين/ات بحجج واهية بالإضافة لعدم قدرتهم/ن على بناء تحالفات حقيقية على الأرض مما ترك المجال للأحزاب الدينية لتنشط وتمسك بزمام السلطة.
لكن حان الوقت لتغيير الخطاب السائد والتعلم من الأخطاء السابقة والتعاون فيما بيننا واستثمار الموارد المتاحة للنهوض بمجتمعاتنا فالتحديات الاقتصادية عظيمة في أعقاب الجائحة، وفي ظل استقطاب دولي حاد وصراعات متعددة؛ فقد وصلت نسب البطالة والتضخم نسبا قياسية وتزايدت معدلات الانتحار، وتوغل الفساد واستفحل، ووصل الإحباط بالشباب العربي بأن يتمنى أكثر من نصفهم الهجرة (هذه نسبة إقبال الشباب العربي على الهجرة.. ما الذي يدفعه لذلك؟، 2020). فماذا نحن فاعلون/ات؟!
1 comment