لَعِبتْ تعددية المجتمع اللبناني الدينية والثقافية، وموقعه الوسطي المنفتح على مختلف الحضارات، وتعرضه التاريخي للعديد من الإستعمارات، دوراً هاماً في جعله أول المجتمعات العربية التي تُخرِج الحرية من دائرة المطالب أو الحقوق المكتسبة التي يمنن بها أولياء السلطة وأصحاب القوّة شعوب الأرض، بأن كرّسها حقاً طبيعياً للإنسان يدافع من خلاله عن غيره من الحقوق ويبني عليه مختلف المبادئ، وينطلق منه ركيزةً في العديد من النضالات.
إنَّ الحرية طبيعة الانسان منذ وجوده، وميزة الانسان القادر على الفصل بينها وبين الوقاحة وعدم الموضوعية بالادعاء بها، وتسمو لأن تكون أعظم أسباب وجود الإنسان على هذه الأرض حينما ترتبط إرتباطاً مباشراً بالمنطق والقِيَم المجتمعية التي ترعى استمراريته. إنها كرامة كل مخلوق، ومن يعتدي عليها يعتدي على جوهر الحياة.
فكيف بات النضال من أجل الدفاع عن ركن السيادة، الذي يتجسد بالحرية، أحد أخطر الحركات الوطنية في لبنان انطلاقاً من العام ٢٠٠٥ ؟
نشأ لبنان بموجب ميثاق وطني منبثق عن صيغة العيش الواحد بين أبنائه، تقوم على التحرر من الإستعمار في سبيل الوصول إلى وطن نهائي لجميع أبنائه بلا تفرقة وتمييز، يُحكم من الشعب وللشعب عبر نظام ديمقراطي تمثيلي حُر قائم على المحاسبة وفق ما يطرحه الرأي العام من قضايا، والمنبثق عن العمل الحر والموضوعي والمتقن من السلطة الرابعة. لكن واقعياً، قُيِّدَتْ هذه العناوين الدستورية بوسائل عدّة، عسكرية سياسية وثقافية وعقائدية دينية وديموغرافية، خدمةً لمشاريع دولية توسُّعية عملتْ تاريخياً وفي أكثر من دولة عربية على ترويض مجتمعات ترفض كلَّ رافد عن سَيْل أفكارها التي لَبِسَتْ ثوب الإرهاب وسيلة تسلُّط على الدساتير والمؤسسات.
إنَّ التفشي السرطاني للاحتلال الإيراني ما كان عبثياً في الكيانات العربية، وليس استئصاله ممكناً، ولا مواجهته، كيفما كان، سهلة ونافعة، وليس شائعاً علاج تبعاته على فكر المجموعات الموالية له والتي أثبتت في مراحل عدّة أنها تفديه بأوطانها وتقدم له على طبق الطاعة مقدّرات بلادها وسيادتها واستقرارها وشرعيتها وإرادة شعوبها، وهذا ما قام به “حزب الله” في لبنان، ليس بعد عام ٢٠٠٠ فقط، بل منذ نشأته حينما اعتبر أمينه العام أنَّ مشروع الحزب ليس دولة إسلامية في لبنان، إنَّما جعله جزءً من الجمهورية الإسلامية الكبرى في إيران أي جزءً من ولاية الفقيه.
فبعد العام ٢٠٠٥، نُزعَتْ صفة “أم الشرائع” عن العاصمة اللبنانية بيروت وكُرِّس فيها نهج إلغاء الرأي الآخر ومُجِّدَ فيها كَتمُ الصوت وفَرضُ إملاءات “الوصي اللعين” بالقمع والإستبداد، فحلَّتْ الأحكام العرفية الميليشياوية نظاماً، والإصبع المرتفع مطرقة عدالةِ اللاعدالة، والصوت الباعق صوت الفجور والحق الزائف. إنَّ بيروت تقبع منذ زمن تحت خطر الابادة لكلِّ صوت يرفع الحقَّ والصدق رايةَ قيادةٍ في سبيل التحرر من بطش احتلال يُدار من نظام الحكم الديكتاتوري في إيران.
إنَّ هذا القمع يؤثِّر بالمباشر على مجتمعات المناطق ذات الغالبية الشيعية بحيث يفرض على مدارسها وجمعياتها الكشفية نظاماً تعليمياً يقوم على الحشو العقائدي الطائفي، تبنى عليه طموحات أجيال تنحصر بالفكر الجهادي الفدائي لشخصيات ومنظمات تتخذ منهم دروع هيمنة وتطرف. وغير ذلك، يمارس القمع الفكري على مختلف فئات المجتمع هناك من خلال حظر بعض شاشات التلفزة التي تعتبر وفقاً لرأيهم الشرعي “صهيونية”، ليضعوا بذلك مجموعة كبيرة ضمن انغلاق تام عن الواقع وانعزال عن الرأي العام اللبناني، وليكونوا بارتباط تام بما تلقّنهم إياه محطاتهم وصحفهم ومواقعهم الإلكترونية التي تكوِّن مطلق توجهاتهم السياسية والإنتخابية.
ولحماية هذا الكيان، اغتيل المصور الصحافي جورج بجاني، وعبر هذا الكيان اغتيل الناشط الصحافي لقمان سليم ومُنِع التحقيق بقضيته، ومن أجله أيضاً تمنع أي وسيلة إعلامية من الدخول والتصوير في مناطق تحت سيطرة “حزب الله”. وفي السياق نفسه، اغتيل جبران تويني وسمير قصير وغيرهما، إضافة إلى التهديدات التي تتلقاها البرامج ومحطات التلفزة والجماهير، والاستدعاءات القضائية المدبرة للعديد من الصحافيين، حتى ينخفض بفعل ذلك تصنيف لبنان في حرية الصحافة للعام ٢٠٢٢ إلى المرتبة ١٣٠ من أصل ١٨٠ بعدما كان في المرتبة ١٠٧ العام الماضي.
وعليه، ما سَلُمَتْ ولن تسلم “حرِّيتنا” من الأذى حتَّى يُراقَ على جوانبها الدَّم، فإجعلوا الفكر والوعي منارة حرّيتكم، وواجهوا في سبيل قيامة لبنان.